مقدمة

تُشكل أزمة المياه في سوريا اليوم واحدة من أخطر التهديدات الوجودية التي تواجه أكثر من أربعة ملايين إنسان، نصفهم تقريباً من النازحين. ففي محافظات إدلب وحلب والرقة والحسكة، تُعاني مئات المخيمات من نقص حاد في مصادر المياه الآمنة والثابتة. تتضافر الضغوط المناخية والاقتصادية مع التآكل المستمر للبنية التحتية جراء الحرب الطويلة والزلازل الأخيرة، مما يجعل إطلاق مشاريع سقيا عاجلة مسألة حياة أو موت لا تحتمل التأجيل.

المخيمات في قلب العطش

يعيش ألالاف النازحين داخل سوريا ولاسيما الذين يعيشون في المخيمات في ظروف بالغة الصعوبة، حيث لا يتجاوز نصيب الفرد من المياه 20 لتراً يومياً، وهو ما يمثل ثلث الحد الأدنى الذي توصي به المنظمات الإنسانية. في مخيم نازحين رأس العين وحده، الذي يضم أكثر من 15 ألف شخص، حُدّد المعدل اليومي بنحو 50 لتراً للأسرة بأكملها ولجميع الاستخدامات. هذا النقص يدفع الأهالي إلى الاعتماد على آبار سطحية ملوثة ترتفع فيها نسب البكتيريا والطفيليات، مما يؤدي إلى موجات من الإسهالات، والجفاف، وأمراض جلدية مثل الجرب والقمل بين الأطفال، مُهدداً بحدوث كارثة صحية شاملة.

سقيا الماء

مشاريع نقل المياه للمخيمات

بنية تحتية محطّمة وعوامل مناخية ضاغطة

لقد تعرّضت مئات محطات الضخ وشبكات الأنابيب للتدمير جراء القصف أو الإهمال على مدار سنوات النزاع. كما أدى النزوح المتكرر إلى زيادة هائلة في استهلاك المياه في مناطق لم تُصمَّم أساساً لخدمة هذا العدد الضخم من السكان. ومع توالي سنوات الجفاف، تراجع منسوب نهري الفرات والخابور بشكل كارثي، مما أدى إلى جفاف العديد من الآبار وانخفاض معدل امتلائها من 70% إلى 30% خلال صيف 2024. هذا التدهور ضاعف زمن ملء الصهاريج ثلاث مرات ورفع تكلفتها على الأسر التي تعيش أصلاً تحت خط الفقر المدقع، مما يزيد من معاناتهم اليومية ويحد من قدرتهم على الحصول على أبسط مقومات الحياة.

مخاطر صحية متفجرة: عودة الكوليرا

كان التلوث الشديد لمصادر مياه الشرب السبب الرئيسي في أسوأ تفشٍ للكوليرا تشهده سوريا منذ عقود. فبين سبتمبر 2024 ومايو 2025، سُجِّل أكثر من 170 حالة مشتبه بها في الحسكة والرقة ودير الزور، في ظل نظام صحي مُنهك لا يمتلك القدرة على إجراء الفحوص المخبرية أو عزل المرضى بالسرعة المطلوبة لاحتواء الوباء. ومع توقّف تمويل عمليات نقل المياه المُكلفة، ارتفعت الإصابات بالإسهال بنسبة 47% في بعض مخيمات إدلب بعد توقف الشاحنات لمدة شهر واحد فقط، مما يؤكد العلاقة المباشرة بين نقص المياه النظيفة وتدهور الوضع الصحي للسكان.

الحسكة أكثر المحافظات عطشاً

تحوّلت الحسكة وريفها إلى “منطقة كوارث” بعد انقطاع محطة العلوك عن الخدمة أكثر من 36 مرة منذ عام 2019. يعتمد نحو مليون شخص في هذه المنطقة كلياً على شاحنات خاصة تبيع برميل الماء بما يصل إلى 15 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل دولاراً واحداً تقريباً، وهو مبلغ يفوق قدرة معظم العائلات التي تُعاني من الفقر المدقع. ومع كل موجة حرّ، تتكرر الشكاوى من تلوث المياه بالشوائب والأتربة، بينما تحاول فرق اليونيسف تعويض النقص بضخ 95 ألف لتر يومياً و600 متر مكعب إلى مخيمي الهول والعريشة، لكن هذا الحل الإسعافي لا يغطي سوى ثلث الاحتياج الفعلي، مما يُبقي الأزمة متفاقمة.

شمال حلب وإدلب: فجوة التمويل تقتل

في مخيمات دير حسن وجنديرس وعزاز، تسبب خفض التمويل في عام 2024 بتوقف خدمات نقل المياه في عشرات المواقع. وفي شهر واحد فقط، قفز عدد حالات الإسهال المائي الحاد بنسبة 30-50%، وتضاعفت شكاوى التهابات الكبد. تُحاول منظمة أطباء بلا حدود تغطية 90 مخيماً من خلال تعقيم الصهاريج وبناء نقاط غسل اليدين، لكن تغطيتها لا تتجاوز 30 ألف شخص مقابل أكثر من 600 ألف محتاج. لهذا، يبقى دعم مشاريع ضخ المياه من الآبار العميقة وتركيب أنظمة الطاقة الشمسية هو الخيار الأوفر والأكثر استدامة مقارنة بالنقل بالشاحنات، الذي يُعد حلاً مؤقتاً ومكلفاً.

تدخلات المنظمات: بين العمل الإسعافي والحلول المستدامة

لقد قامت العديد من المنظمات بجهود حثيثة لتخفيف وطأة الأزمة. قامت منظمة ACTED بترميم محطة مياه محلية ووفرت 37 لتراً يومياً لـ 16 ألف شخص، مع تدريب الفنيين المحليين على الصيانة الدورية. كما أعادت منظمة GOAL، بدعم من الاتحاد الأوروبي، تشغيل وتسليح محطات في إدلب وحلب، موصلةً المياه عبر أنابيب جديدة إلى 800 ألف مستفيد، وبنت أبراجاً تخزينية وأنظمة شمسية لتقليل الاعتماد على الوقود.

أعادت Qatar Charity تأهيل محطة بابليت المعطلة منذ عام 2012، مما أسهم في ريّ 5 آلاف هكتار ودعم الأمن الغذائي للأسر الزراعية. وشكّلت Mercy Corps لجاناً مجتمعية لتحديد الأولويات؛ ففي إحدى قرى إدلب، اختارت اللجنة إعادة تشغيل محطة محلية عبر مضخة إضافية وخزان مرتفع وشبكة بطول 1.6 كم. في السياق ذاته، كثّفت IRC برامج التوعية الصحية ووزعت أقراص الكلور مع ارتفاع الشكوك حول انتشار الكوليرا في الشمال الشرقي.

تُظهر هذه الجهود أن مشاريع المياه ليست “رفاهية”، بل محوراً أساسياً لسلامة المجتمع وصموده. كما تؤكد على أن الربط بين الدعم العاجل (مثل نقل المياه والكلورة) والحلول طويلة الأمد (مثل ترميم الشبكات، واستخدام الطاقة الشمسية، وحفر الآبار العميقة) هو ضرورة لا انفصام لها لضمان استدامة الحياة.

جمعية غراس الخير وسقيا الماء

نفذت جمعية غراس الخير مشروع سقيا الماء كحل عاجل في إيصال مياة الشرب للعوائل الفقيرة والمحتاجة في مخيمات شمال غرب سوريا يمكن التبرع لهذا المشروع من اي مكان بالعالم عبر البطاقة البنكية أو بيبال عبر الرابط التالي

فجوة التمويل وتسييس المياه

على الرغم من التصاعد الهائل في الاحتياج، شكّلت أنشطة الماء والإصحاح أقل من 5% من موازنة الاستجابة السورية في عام 2025، بعدما كانت ثلاثة أضعاف ذلك في عام 2020. تُفاقم “سياسة حبس الصنبور”—حيث تُستخدم المياه ورقة ضغط عسكرية وسياسية—الأزمة وتُسهم في عزوف المانحين عن تمويل مشاريع البنية التحتية باهظة التكلفة. تُحذّر منظمة أطباء بلا حدود من أن المنظمات لن تستطيع سد الفجوات ما لم يُضَخ تمويل مرن ومستقر يُمكّن الفاعلين المحليين من إدارة المحطات وشراء الوقود والمواد الكيميائية اللازمة للمعالجة.

خاتمة

للتصدي لهذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة في شمال سوريا، لا بد من اتخاذ خطوات عاجلة ومستدامة:

  • التحوّل من الشاحنات إلى الشبكات: أثبتت التجارب أن كل دولار يُستثمر في تأهيل خطوط الضخ يوفر ثلاثة دولارات كانت ستُنفق على نقل المياه سنوياً، مما يجعله حلاً اقتصادياً وفعالاً على المدى الطويل.
  • تكامل الطاقة الشمسية: تركيب ألواح بقدرة 15 كيلوواط في محطة متوسطة يغطي 70% من استهلاكها ويقلل الاعتماد على وقود باهظ الثمن وغير مستقر، مما يضمن استمرارية توفر المياه.
  • تمكين المجتمعات: مشاركة لجان المخيمات في تحديد مصادر المياه وضمان مراقبة الجودة يقلل الهدر ويرفع قبول السكان للمشروع، ويضمن فعاليته على الأرض.
  • ضمان الوصول الإنساني: على الفاعلين الدوليين الضغط لحياد محطات الضخ وشبكات الكهرباء عن النزاع، وتكريس مرور آمن لفرق الصيانة، لضمان وصول المساعدات واستمرارية الخدمات.

من دون هذه التدخلات العاجلة، ستستمر دوامة المرض والنزوح والفقر في الاتساع، وسيبقى ملايين السوريين أسرى للعطش يوماً بعد يوم. أما الاستثمار في مشاريع مياه مستدامة اليوم فيعني وضع حجر الأساس لتعافٍ حقيقي يفتح الباب أمام الاستقرار الاقتصادي والصحي والاجتماعي غداً. إن تأمين المياه النظيفة والآمنة ليس مجرد دعم إنساني، بل هو استثمار في مستقبل ملايين الأرواح المعرضة للخطر.