الأمان النفسي للأيتام… الغائب الأكبر في برامج الرعاية

يُعدّ الأمان النفسي من أهمّ مقوّمات النموّ السليم للإنسان، خصوصًا في مرحلة الطفولة، حيث تتكوّن ملامح الشخصية وتتشكّل المشاعر الأساسية تجاه الذات والعالم. غير أنّ هذه الحاجة الحيوية كثيراً ما تُهمَل في حياة فئةٍ هي الأَولى بالاهتمام والرعاية: الأيتام.

فعلى الرغم من الجهود التي تبذلها المؤسسات الحكومية والخيرية في توفير المأكل والملبس والتعليم، فإنّ البعد النفسي والعاطفي يظلّ في الغالب غائباً أو ضعيف الحضور، مما يترك أثراً عميقاً في تكوين شخصية اليتيم ومستقبله.

الأمان النفسي للأيتام

 مفهوم الأمان النفسي وأهميته

الأمان النفسي هو شعور الفرد بالاطمئنان الداخلي، والثقة في أنّه محبوب، ومقبول، ومُحاط بالرعاية دون خوفٍ من الرفض أو العقاب أو الإهمال. إنه الشعور بأنّ العالم مكانٌ يمكن التنبؤ به، وأنّ الآخرين يمكن الوثوق بهم.
بالنسبة للطفل، يعني ذلك أن يشعر أنّ هناك من يحميه، ويُصغي إليه، ويحتويه عند الخوف أو الحزن. هذه المشاعر ليست رفاهية، بل هي الأساس الذي يبني عليه الطفل قدرته على التعلّم، والتواصل، وضبط الانفعالات، وتكوين العلاقات.

في المقابل، فإنّ غياب الأمان النفسي يترك الطفل في حالة قلق دائم، وشعور بعدم الثقة في نفسه أو في الآخرين. وقد يؤدي ذلك إلى سلوكيات انسحابية أو عدوانية، وصعوبات في التعلّم، بل وقد يتطور إلى اضطرابات نفسية في مراحل لاحقة من العمر.

 اليتيم بين الرعاية المادية والحرمان العاطفي

تعمل كثير من مؤسسات رعاية الأيتام على تلبية الاحتياجات الأساسية من طعام وملبس وتعليم، وتبذل جهوداً ملموسة في هذا المجال، غير أنّ الجانب النفسي والعاطفي غالباً ما يُهمَل أو يُختزل في بعض الأنشطة الترفيهية البسيطة.
الطفل اليتيم لا يحتاج فقط إلى سرير دافئ أو وجبة مشبعة، بل يحتاج قبل ذلك إلى حضنٍ دافئ وكلمةٍ حانية وشخصٍ يشعره بالانتماء والثقة. ففقدان الأب أو الأم لا يعني فقط فقدان مصدر الرزق أو الرعاية، بل هو فقدان الأمان العاطفي الأول في حياة الإنسان.

إنّ وجود الطفل في بيئةٍ مؤسسية بحتة، محكومة بالأنظمة واللوائح، قد يوفّر له الاستقرار المادي لكنه لا يعوّض غياب العلاقة الإنسانية الحميمة التي توفرها الأسرة. وعندما يُربّى الطفل في بيئة تفتقر إلى التواصل العاطفي الحقيقي، فإنّه يكبر وهو يحمل إحساسًا بالنقص والاغتراب، وقد يجد صعوبة في بناء علاقات مستقرة في المستقبل.

 اليتيم بين الرعاية المادية والحرمان العاطفي

 انعكاسات غياب الأمان النفسي على شخصية اليتيم

الأبحاث النفسية والاجتماعية تؤكد أنّ الأطفال الذين يعانون من نقص في الأمان النفسي يواجهون مخاطر أكبر من غيرهم في عدة جوانب، من أبرزها:

  1. القلق والاكتئاب:يعيش الطفل في حالة خوفٍ داخلي من الفقد أو الرفض، ويُظهر أعراضًا من الانطواء أو الحزن الدائم.
  2. ضعف الثقة بالنفس:عندما لا يشعر الطفل بأنّ أحدًا يقدّره أو يهتم لمشاعره، ينشأ لديه إحساس بعدم القيمة.
  3. صعوبة تكوين العلاقات:قد يجد اليتيم صعوبة في الثقة بالآخرين أو في التعبير عن مشاعره، مما يحدّ من قدرته على تكوين صداقات أو علاقات أسرية مستقرة مستقبلًا.
  4. العدوانية أو الانسحاب الاجتماعي:البعض يعبّر عن الألم بالعنف والتمرد، والبعض الآخر بالانعزال والانطواء، وكلاهما نتيجة لحرمان نفسي عميق.
  5. ضعف التحصيل الدراسي:لأنّ القلق الداخلي يشتت الانتباه ويقلل من قدرة الطفل على التركيز والتعلم.

 كيف نمنح الأيتام الأمان النفسي؟

تحقيق الأمان النفسي للأيتام ليس مهمةً مستحيلة، لكنه يتطلب فهماً عميقاً لطبيعة احتياجاتهم النفسية، ودمج هذا الفهم في كل برامج الرعاية. ومن أبرز الخطوات العملية لتحقيق ذلك:

  1. تدريب العاملين في دور الرعاية على مهارات التواصل العاطفي، وفهم سلوك الطفل من منظورٍ نفسي وليس عقابي.
  2. توفير أخصائيين نفسيين واجتماعيين دائمين في كل مؤسسة، وليس على سبيل الاستشارة العرضية.
  3. إنشاء برامج دعم نفسي مستمرة تشمل جلسات فردية وجماعية، وأنشطة تُنمّي الثقة بالنفس والانتماء.
  4. تعزيز العلاقات الأسرية البديلة من خلال برامج “الاحتضان” أو “الأسر الحاضنة”، لأنها الأقرب لتوفير بيئة أسرية حقيقية.
  5. إشراك المجتمع المحلي والمتطوعين في تقديم الدعم الإنساني والوجداني، مما يعزز شعور اليتيم بأنه جزء من مجتمعٍ متكامل وليس معزولًا في مؤسسة مغلقة.

 الأمان النفسي للأيتام حقّ لا ترف

من الخطأ النظر إلى الأمان النفسي باعتباره مطلباً ثانوياً بعد تحقيق الرعاية المادية. فالطفل الذي لا يشعر بالأمان سيظلّ يعاني، حتى لو توفرت له أفضل المدارس والملابس.
إنّ بناء اليتيم نفسياً وعاطفياً هو استثمار في الإنسان وفي المجتمع بأسره، لأنّ هذا الطفل سيصبح يوماً ما شاباً يشارك في بناء وطنه أو ربما يعاني من اضطراباتٍ تعيقه وتؤثر على من حوله.

الأيتام لا يحتاجون إلى الشفقة، بل إلى الاحتواء. يحتاجون إلى أن يشعروا بأنّهم محبوبون لا لشيءٍ فعلوه، بل لأنهم يستحقون الحب مثل أيّ إنسان آخر.