ترميم المدارس في سوريا.. إعادة بناء الحجر وعودة الأمل

مقدمة

في بلد أنهكته الحرب لأكثر من 14 عاماً من الزمان، لم يكن الدمار مقتصراً على البنى التحتية فحسب، بل طال أحلام الأجيال الصغيرة التي كانت المقاعد الدراسية بالنسبة لها نافذة نحو المستقبل. ومع إنتهاء الحرب وانتصار الثورة السورية وعودة الحياة تدريجياً إلى كثير من المناطق السورية، برزت جهود ترميم المدارس كأحد أبرز مظاهر النهوض من تحت الركام ووضعها على قائمة أهم الألوليات العاجلة مع قدوم العام الدراسي الجديد. فإعادة بناء جدران المدرسة ليست مجرد عمل هندسي، بل هي خطوة رمزية لإعادة بناء الاجيال السورية، وإحياء الأمل في قلوب الأطفال والأسر والمجتمع بأسره.

ترميم المدارس في سوريا

الدمار الذي طال التعليم

تُقدّر المنظمات الدولية أن آلاف المدارس في سوريا تضرّرت أو دُمّرت كليًا خلال سنوات الحرب، وفق وزارة التربية السورية هناك اككثر من 10 ألاف مدرسة متضررة بين دمار كامل وجزئي. بعض هذه المدارس تحوّل إلى مأوى للنازحين، وبعضها الآخر أصبح ساحة قتال أو خزنات ذخيرة. ومع عودة الأهالي تدريجياً إلى قراهم ومدنهم، وجد الأطفال أنفسهم بلا صفوف دراسية ولا معلمين كافين.
لقد خسر التعليم في سوريا أكثر من مجرد مبانٍ، بل خسر جيلًا كاملاً من الأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة لسنوات طويلة، واضطر كثير منهم إلى العمل أو النزوح مرات كثيرة. ولهذا، فإن عملية ترميم المدارس اليوم لا تعني فقط إصلاح ما تهدّم، بل محاولة لإنقاذ مستقبل  الأجيال من ضياعٍ محتوم.

الدمار الذي طال التعليم

مبادرات إنسانية وجهود محلية

في مختلف المحافظات السورية، انطلقت خلال السنوات الأخيرة مبادرات متعدّدة لترميم المدارس، بعضها بجهود حكومية، وأخرى بتمويل من منظمات محلية ودولية، أو حتى بمساهمات مجتمعية من الأهالي أنفسهم.


في الشمال السوري قبل التحرير، عملت منظمات خيرية ومبادرات محلية على ترميم عشرات المدارس المتضررة جزئيًا، وإعادة تجهيزها بالأثاث والوسائل التعليمية. وغالبًا ما يبدأ العمل من أبسط التفاصيل: تنظيف الأنقاض، ترميم الجدران المهدمة، طلاء الجدران، توفير الأبواب والنوافذ، ثم إعادة تأهيل الساحات والمرافق الصحية.
وحالياً بعد التحرير، كانت المدارس تُعاد إلى الخدمة بعد غياب دام أكثر من عشر سنوات. فرؤية الأطفال وهم يدخلون فصولهم لأول مرة بعد طول انتظار، كانت كافية لتعيد الدفء إلى قلوب المعلمين وأهاليهم على حدٍّ سواء.

مشروع غراس الخير لترميم 34 مدرسة في سوريا

وفق بيان صحفي من جمعية غراس الخير الإنسانية

دمشق – 7 سبتمبر 2025
أعلنت جمعية غراس الخير الإنسانية عن توقيع عقد مشروع شامل لإعادة تأهيل المدارس المتضررة مع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، وذلك في محافظات حلب، حمص، وإدلب، بهدف تحسين البيئة التعليمية ودعم استمرارية العملية الدراسية.

ويمتد المشروع لمدة 12 شهراً، ومن المتوقع أن يستفيد منه أكثر من 26,000 شخص بشكل مباشر.”

 

التعليم كجسر للسلام

ترميم المدارس لا يقتصر على الجانب المادي، بل يمتد إلى الجوانب النفسية والاجتماعية. فكل صف يُعاد فتحه هو رسالة أمل بأنّ الحياة أقوى من الحرب. المدارس في مرحلة ما بعد الصراع تُصبح رموزًا للسلام، ومراكز لتلاقي الأطفال من خلفيات مختلفة بعد سنوات من الانقسام والخوف.
كما أن إعادة تأهيل المدارس تسهم في استقرار المجتمعات، إذ يجد الأطفال بيئة آمنة تحميهم من مخاطر التسرب أو الانخراط في أعمالٍ غير مناسبة لأعمارهم. التعليم هنا يلعب دور “حارس الطفولة”، يمنع الانزلاق نحو مستقبلٍ مظلم، ويمنحهم فرصة لبناء حياة أفضل.

 

التحديات ما تزال قائمة

رغم الجهود الكبيرة، إلا أن الطريق ما زال طويلاً. فالكثير من المدارس المرممة ما تزال تعاني من نقص في المعدات التعليمية والكوادر المؤهلة. كما تواجه المناطق الريفية صعوبات في تأمين التمويل اللازم لاستكمال الترميم أو تجهيز المدارس بالطاقة الكهربائية والوسائل التكنولوجية الحديثة.
إضافة إلى ذلك، يظل العامل النفسي تحديًا كبيرًا، فالأطفال الذين عاشوا أهوال الحرب يحتاجون إلى برامج دعمٍ نفسي موازية لبرامج التعليم، ليتمكّنوا من العودة إلى الحياة الدراسية بثقة وطمأنينة.

المدارس المدمرة في سوريا

دور المجتمع المحلي

المجتمع السوري أثبت مرارًا أن روح التضامن أقوى من كل الصعاب. في العديد من المناطق، شارك الأهالي في أعمال الترميم بأنفسهم: بعضهم قدّم الأيدي العاملة، وآخرون ساهموا بمواد البناء أو بالتبرع لتأمين مستلزمات الصفوف. هذه المشاركة الشعبية تعطي معنى إضافيًا لعملية الترميم، لأنها تجعل المدرسة مشروعًا جماعيًا يخص الجميع.
كما ساهمت المبادرات الشبابية في إطلاق حملات توعية بأهمية التعليم، وجمع التبرعات لشراء القرطاسية والحقائب للأطفال، ما ساعد في تشجيع العائلات على إعادة أبنائها إلى المقاعد الدراسية.

 

عودة الأمل

اليوم، في كثير من المدن والبلدات السورية، باتت أصوات التلاميذ تعود شيئًا فشيئًا إلى الساحات التي كانت خالية. ومع كل مدرسة تُفتح أبوابها من جديد، تولد حكاية جديدة من الصبر والإصرار.
ترميم المدارس هو أكثر من إعادة بناء جدران متشققة؛ إنه عملية إنعاشٍ للروح الوطنية، وتأكيد على أن مستقبل سوريا يُكتب في دفاتر أطفالها.
قد تبقى التحديات الاقتصادية والسياسية قائمة، لكن الأمل يتجدد مع كل صباحٍ يُرفع فيه العلم فوق سارية مدرسةٍ رممها أبناء البلد بأيديهم. فحيثما يُسمع صوت جرس المدرسة، هناك حياة تتفتح من جديد.

عودة الأمل

خاتمة

إن ترميم المدارس في سوريا ليس مجرد مشروع هندسي أو إنساني، بل هو استثمار في السلام والتنمية المستدامة. فبإعادة بناء الحجر، تُعاد الثقة بالحياة، ويُزرع الأمل في عقول الأجيال القادمة. وكما أن الحرب بدأت بتدميرٍ شامل، فإن السلام يبدأ بخطواتٍ صغيرة، من بينها جدار يُرمم، وصف يُفتح، وطفلٌ يعود إلى مقعده ليكتب حلمه من جديد.