مقدمة

تُعد مشكلة المياه اليوم واحدة من أبرز التحديات التي تواجه العالم بأسره، لكن وقعها يزداد خطورة في الدول التي تعاني من الأزمات والنزاعات، حيث تتداخل الضغوط الطبيعية مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتشكل تهديداً مباشراً على حياة السكان. وفي سوريا، يشكّل شح المياه والجفاف أحد أخطر التحديات التي تعصف بالمجتمع، إذ يؤثر على الأمن الغذائي والصحة العامة، ويزيد من معاناة الأسر التي تكافح يومياً من أجل تأمين حاجتها الأساسية من الماء للشرب والزراعة والاستخدام المنزلي.

الجفاف والتغير المناخي: عوامل متداخلة

منذ أكثر من عقدين، تتعرض سوريا لدورات متكررة من الجفاف، لكن وتيرة هذه الظاهرة تسارعت بشكل ملحوظ مع تفاقم آثار التغير المناخي. فقد تراجعت معدلات هطول الأمطار الموسمية، وازدادت فترات انقطاعها، مما انعكس مباشرة على المحاصيل الزراعية ومصادر المياه السطحية. وتشير تقارير دولية إلى أن المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من سوريا، التي تعد سلة غذاء البلاد، تعرضت لانخفاض غير مسبوق في منسوب نهر الفرات والأنهار الفرعية، الأمر الذي أضعف قدرة المزارعين على ري محاصيلهم، وأدى إلى تراجع إنتاج القمح والشعير والخضروات، وهي مواد أساسية في سلة الغذاء السورية.

ولم يقتصر الأمر على الزراعة، بل امتد ليشمل مصادر مياه الشرب. فمع انخفاض مناسيب المياه الجوفية وتراجع تدفق الأنهار، أصبحت مئات القرى والبلدات تواجه صعوبة في الحصول على مياه صالحة للاستهلاك، وهو ما يزيد من احتمالية انتشار الأمراض المنقولة عبر المياه، مثل الإسهالات والتيفوئيد والكوليرا.

الجفاف والتغير المناخي: عوامل متداخلة

التأثير على الأمن الغذائي والصحة العامة

إن الارتباط الوثيق بين المياه والغذاء يجعل من أزمة الجفاف في سوريا قضية أمن غذائي بامتياز. فالجفاف أدى إلى انخفاض كميات الإنتاج الزراعي بنسبة كبيرة، الأمر الذي رفع أسعار السلع الغذائية في الأسواق المحلية، وزاد من مستويات انعدام الأمن الغذائي لدى ملايين السكان. ومع تراجع القدرة الشرائية للسكان نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، باتت المياه عامل ضغط إضافي يهدد استقرار الحياة اليومية.

من الناحية الصحية، فإن غياب المياه النظيفة يجبر بعض الأسر على الاعتماد على مصادر ملوثة، ما يضاعف من المخاطر الصحية خاصة لدى الأطفال وكبار السن. وتزداد الأزمة تعقيداً مع محدودية خدمات الصرف الصحي في كثير من المناطق، حيث يؤدي تلوث المياه إلى تفاقم الأمراض المعدية. وبالتالي، فإن أزمة المياه لم تعد مجرد قضية بيئية أو زراعية، بل تحولت إلى أزمة إنسانية شاملة تمس مختلف جوانب الحياة.

مبادرات لمواجهة التحدي

أمام هذه الظروف المعقدة، تعمل جمعيات إنسانية وتنموية في سوريا على إطلاق وتنفيذ مبادرات لمواجهة شح المياه وضمان توفرها للسكان. ومن أبرز هذه المبادرات:

  1. حفر الآبار الارتوازية
    في المناطق التي تعاني من انقطاع المياه أو انعدام شبكات الإمداد، يتم العمل على حفر آبار ارتوازية لتأمين مصدر مستدام من المياه الجوفية. ورغم التكاليف المرتفعة والصعوبات الفنية، إلا أن هذه الخطوة تعد من الحلول الحيوية التي تضمن وصول المياه إلى آلاف الأسر والمزارعين.

  2. صيانة شبكات المياه
    كثير من شبكات المياه في المدن والبلدات السورية تضررت بفعل النزاع المستمر، وأصبحت تعاني من تسربات وهدر كبير. لذلك، تعمل الجمعيات على إعادة تأهيل هذه الشبكات، وصيانة المضخات والخزانات المركزية، مما يقلل من الفاقد المائي ويحسن وصول المياه إلى المستفيدين.

  3. توزيع خزانات المياه المنزلية
    لمواجهة مشكلة انقطاع المياه المتكرر، يتم توزيع خزانات بلاستيكية على الأسر الأكثر ضعفاً، ليتمكنوا من تخزين كميات مناسبة من المياه عندما تكون متاحة. هذا الإجراء البسيط يساهم في تعزيز صمود الأسر ويخفف من معاناتها اليومية.مبادرات لمواجهة التحدي

  4. حملات التوعية حول ترشيد استهلاك المياه
    لا يمكن مواجهة أزمة المياه دون إشراك المجتمع المحلي في عملية الحل. ولهذا، تُنظم حملات توعية لتعريف الناس بأهمية ترشيد الاستهلاك، وطرق الحفاظ على المياه في الاستخدام المنزلي والزراعي، مثل استخدام الري بالتنقيط أو جمع مياه الأمطار.

  5. التعاون مع المزارعين
    يتم تقديم الدعم للمزارعين عبر توفير معدات ري حديثة، أو مساعدتهم في إعادة تأهيل قنوات الري التقليدية، بهدف تقليل الهدر وتحسين إنتاجية المحاصيل رغم شح الموارد المائية.

نحو مستقبل آمن مائياً

رغم ضخامة التحديات، فإن المبادرات الجارية تشكل بارقة أمل في مواجهة أزمة المياه في سوريا. لكن الحلول المستدامة تتطلب أكثر من جهود محلية، إذ من الضروري أن تتكامل هذه المبادرات مع سياسات وطنية شاملة لإدارة الموارد المائية، تراعي التغيرات المناخية والزيادة السكانية، وتستند إلى التخطيط السليم. كما أن الدعم الدولي يلعب دوراً محورياً في تمويل مشاريع البنية التحتية المائية وتقديم التقنيات الحديثة التي تضمن الاستخدام الأمثل للمياه.

في النهاية، يبقى الماء أساس الحياة، وتأمينه مسؤولية مشتركة بين المؤسسات الرسمية والجمعيات المحلية والدولية، وبين كل فرد في المجتمع. فأزمة المياه في سوريا ليست مجرد تحدٍ وقتي، بل قضية مصيرية تتطلب استجابة عاجلة وواعية لضمان بقاء الحياة واستمرارها، وصون حق الأجيال القادمة في العيش الكريم.