مقدمة عن الصحة النفسية في سوريا

تُعد الصحة النفسية أحد الجوانب الأكثر إغفالاً خلال الأزمات الإنسانية، رغم تأثيرها العميق على قدرة الأفراد والمجتمعات على التعافي. في سوريا، حيث استمر الصراع لأكثر من عقد، عانى ملايين الأشخاص من النزوح، وفقدان الأحباء، وتدمير المنازل والمدارس والمشافي والبنية التحتية، وقد تركت هذه معاناة الحرب آثاراً نفسية واجتماعية جسيمة على الناجين. الأطفال والنساء، على وجه الخصوص، هم الفئات الأكثر هشاشة وضعفاً أمام الصدمات النفسية المرتبطة بتبعات الحرب والنزوح الطويل، حيث يعانون من فقدان الاستقرار والأمان، ما يهدد نموهم النفسي والاجتماعي على المدى الطويل.

في هذا السياق، ركزت العديد من المنظمات الإنسانية والجمعيات المحلية والدولية على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين. فالصحة النفسية ليست مجرد علاج للاضطرابات وليست رفاهية، بل هي أساس للتمكين، وإعادة بناء المجتمعات المحلية، وضمان قدرة الأفراد على العيش بكرامة وأمان. تقدم هذه البرامج خدمات متنوعة مجانية تشمل جلسات علاج نفسي فردية وجماعية، ورش عمل للمهارات الحياتية، وأنشطة ترفيهية للأطفال، ودعم اجتماعي للأسر، بهدف تمكين الناجين من مواجهة الصدمات النفسية واستعادة إحساسهم بالأمان والانتماء.

 مقدمة عن الصحة النفسية في سوريا

 

أثر الحرب السورية على الصحة النفسية للناس في سوريا

تسببت الحرب في سوريا في تفاقم مستويات التوتر والقلق والاكتئاب بين السكان، ما أدى إلى ظهور اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)، واضطرابات القلق، ومشكلات النوم، وفقدان الثقة بالآخرين. الأطفال الذين شهدوا العنف أو نزحوا عدة مرات يعانون من صعوبات في التعلم، واضطرابات سلوكية، وانعزال اجتماعي. النساء اللواتي فقدن أزواجهن أو أقاربهن، أو تعرضن للعنف، غالباً ما يعانين من الاكتئاب والقلق الشديد، ويواجهن تحديات مضاعفة في رعاية أسرهن وإعادة بناء حياتهن اليومية.

كما أن النزوح المستمر وتفكك الأسرة والمجتمع أدى إلى فقدان شبكات الدعم التقليدية، وهو ما يزيد من صعوبة التعافي النفسي. هذا الواقع يجعل تدخلات الصحة النفسية ضرورة عاجلة، وليس رفاهية، لأنها تؤثر على قدرة الأفراد على المشاركة في التعليم والعمل، وعلى استقرار المجتمع بشكل عام.

برامج الدعم النفسي والاجتماعي

تستهدف الجمعيات برامجها وفقاً لمبادئ الاستجابة الإنسانية الشاملة، بحيث تشمل الدعم النفسي والاجتماعي، وتعزز الصمود النفسي للأفراد والمجتمعات. وتشمل هذه البرامج:

  1. الجلسات العلاجية الفردية والجماعية:
    • تقدم جلسات الدعم النفسي الفردية للمصابين باضطرابات ما بعد الصدمة، وتساعدهم على التعامل مع المشاعر السلبية وإعادة بناء الروتين النفسي.
    • الجلسات الجماعية تسمح للناجين بمشاركة تجاربهم مع أشخاص واجهوا ظروفًا مشابهة، ما يعزز الشعور بالتضامن والتخفيف من العزلة الاجتماعية.
  2. ورش عمل للمهارات الحياتية والتكيف الاجتماعي:
    • تهدف إلى تمكين الناجين من مواجهة الضغوط اليومية والتحديات النفسية.
    • تشمل تدريبًا على إدارة التوتر، تطوير مهارات التواصل، وتحسين القدرة على حل المشكلات، ما يسهم في تعزيز الاستقلالية والاعتماد على الذات.
  3. أنشطة ترفيهية للأطفال والشباب:
    • تقدم برامج تعليمية وترفيهية للأطفال لمساعدتهم على معالجة الصدمات بطريقة آمنة وإيجابية.
    • تشمل اللعب الجماعي، الرسم، المسرح، والأنشطة الإبداعية التي تساعد الأطفال على التعبير عن مشاعرهم، وتخفف من آثار العنف والنزوح.أنشطة ترفيهية للأطفال والشباب:
  4. دعم النساء والأسر:
    • برامج متخصصة للنساء اللواتي تعرضن للعنف أو فقدن أقاربهن، تشمل جلسات علاج نفسي جماعية، واستشارات اجتماعية، وبرامج تمكين اقتصادي.
    • تهدف إلى إعادة بناء الثقة بالنفس وتعزيز القدرة على إدارة الأسرة والمجتمع المحلي بعد الصدمات.

أثر هذه البرامج على المجتمعات

أظهرت التقييمات أن هذه البرامج تساعد الناجين على استعادة إحساسهم بالأمان، وتخفيف المشاعر السلبية، وتحسين التفاعل الاجتماعي. الأطفال الذين شاركوا في الأنشطة الترفيهية يظهرون تحسنًا في القدرة على التركيز والتواصل، ويستعيدون شعورًا باللعب والمرح الطبيعي، وهو عنصر مهم في النمو النفسي الصحي. النساء المستفيدات من الدعم الجماعي يكتسبن أدوات للتكيف مع الضغوط النفسية، ويستعيدن السيطرة على حياتهن اليومية.

علاوة على ذلك، يسهم تقديم الدعم النفسي والاجتماعي في تعزيز الصمود المجتمعي. إذ يكتسب الأفراد القدرة على مواجهة التحديات اليومية، ويصبح المجتمع أكثر قدرة على التعافي بعد النزاعات، ما يقلل من احتمالية تفاقم الصدمات النفسية بين الأجيال القادمة.

التحديات المستقبلية

رغم الجهود المبذولة، تواجه برامج الصحة النفسية في سوريا عدة تحديات، منها:

  • محدودية الموارد المالية والبنية التحتية.
  • نقص الكوادر المؤهلة في العلاج النفسي والتأهيل الاجتماعي.
  • استمرار النزاعات وغياب الأمن في بعض المناطق، ما يعيق الوصول إلى المستفيدين بشكل آمن.

خاتمة

الصحة النفسية في سوريا ليست مجرد مسألة رفاهية، بل عنصر أساسي للتعافي والمستقبل. دعم الناجين من الصراعات يتطلب تقديم برامج شاملة تشمل العلاج النفسي، الدعم الاجتماعي، والأنشطة الترفيهية للأطفال والشباب، مع التركيز على النساء والأسر الأكثر هشاشة. من خلال هذه البرامج، يتمكن الناجون من تجاوز الصدمات، واستعادة حياتهم الطبيعية قدر الإمكان، ويُبنى مجتمع أكثر صمودًا وقدرة على التعافي.

إن الاستثمار في الصحة النفسية للناجين اليوم يعني بناء مستقبل أكثر استقراراً واشراقاً، فهو الطريق لضمان أن تتحول الصدمات إلى قوة دافعة نحو النمو والتعافي، لا إلى إرث مستمر من الألم والمعاناة.